كر ابن السمعاني لهذه القصيدة قصة عجيبة فروى:
أن رجلا من أهل بغداد قصد أبا عبد الرحمن الأندلسي وتقرب إليه بنسبه فأراد أبو عبد الرحمن أن يبلوه ويختبره فأعطاه شيئا نزراً فقال البغدادي إنا لله وإنا إليه راجعون سلكت البراري والقفار والمهامه والبحار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء النزر فانكسرت إليه نفسه فاعتل ومات وشغل عنه الأندلسي إياما ثم سأل عنه فخرجوا يطلبونه فانتهوا إلى الخان الذي هو فيه وسألوا الخانية عنه فقالت إنه كان في هذا البيت ومذ أمس لم أبصره فصعدوا فدفعوا الباب فإذا هو ميت وعند رأسه رقعة فيها مكتوب:
لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
وذكر أبياتا من القصيدة غير تامة
قال فلما وقف أبو عبد الرحمن على هذه الأبيات بكى حتى خضب لحيته وقال وددت أن هذا الرجل حي وأشاطره نصف ملكي وكان في رقعة الرجل منزلي ببغداد في الموضع الفلاني المعروف بكذا والقوم يعرفون بكذا فحمل إليهم خمسة آلاف دينار وعرفهم موت الرجل
وروى الحافظ أبو سعد في الذيل أن الإمام أبا محمد بن حزم قال من تختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل ظرفه.
لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلتِ حقاً ولكن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حداً يضر به
من حيث قدّرت أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا
من عنفه فهو مضنى القلب موجعه
قد كان مضطلعاً بالبين يحمله
فضلّعت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من روعة التفنيد أن له
من النوى كل يوم ما يروّعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه
رأي إلى سفر بالعزم يجمعه
كأنما هو من حل ومرتحل
موكل بفضاء الأرض يذرعه
إذا الزماع أراه في الرحيل غنى
ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه
تأبى المطامع إلا أن تجشمه
للرزق كداً وكم ممن يودعه
وما مجاهدة الإنسان واصلة
رزقا ولا دعة الإنسان تقطعه
والله قسّم بين الخلق رزقهم
لم يخلق الله مخلوقا يضيعه
لكنهم مُلئوا حرصا فلست ترى
مسترزقاً وسوى الفاقات تقنعه
والحرص في الرزق والأرزاق قدقسمت
بغي ألا إن بغي المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه
يوما ويطعمه من حيث يمنعه
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي أن يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفّع بي أن لا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق
عني بفرقته لكن أرقّعه
إني أوسّع عذري في جنايته
بالبين عني وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته
وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم
بلا شكر عليه فعنه الله ينزعه
اعتضت من وجه خلي بعد فرقته
كأسا تجرع منها ما أجرعه
كم قائل ليَ ذقت البين قلت له
الذنب والله ذنبي لست أرقعه
إني لأقطع أيامي وأنفذها
بحسرة منه في قلبي تقطعه
بمن إذا هجع النوام أبت له
بلوعة منه ليلي لست أهجعه
لا يطمئن بجنبي مضجع وكذا
لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب ريب الدهر يفجعني
به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى البين فيما بيننا بيد
عسراء تمنعني حظي وتمنعه
بالله يا منزل القصر الذي درست
آثاره وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا
أم الليالي التي أمضت ترجّعه
في ذمة الله من أصبحت منزله
وجاد غيث على مغناك يمرعه
من عنده ليَ عهد لا يضيعه
كما له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدّع قلبي ذكره وإذا
جرى على قلبه ذكرى يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني
به كما أنه بي لا يمتعه
علما بأن اصطباري معقب فرجاً
فأضيق الأمر إن فكرت أوسعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمي تجمّعني يوما وتجمعه
وإن ينل أحد منا منيته
فما الذي في قضاء الله يصنعه